دخل القائد المسلم قتيبة بن مسلم الباهلي سمرقند وأخذ أهلها على غرة حيث كان لها جيشًا قويًّا يحميها، وتاريخها مع الغزاة حافل بالانتصارات، لم يكن بوسع سمرقند إلا الاستسلام، فـرَّ قادتها وحكامها وكهنتها إلى الجبال، ودخل الناس بيوتهم مذعورين من “الغزاة”، وقد ألجمتهم المفاجأة إلجامًا، وسيطرت جيوش المسلمين على المدينة كلها دون أي مقاومة.
شيئًا فشيئًا بدأ أهل سمرقند يخرجون من بيوتهم، ويتعاملون مع الغزاة الجدد في حذر وترقب، وما هي إلا أيام حتى أدركوا أن المسلمين لا يريدون بهم الشر، بل هم “غزاة من نوع جديد”، يرحمون الصغير، ويساعدون الضعيف، ويدعون لعبادة إله واحد، لا يسرقون، ولا ينهبون، ولا يقتلون، بل يحمون الأمن وينشرون السلام،
وفي السوق قامت مشاجرة عاصفة، بين شاب من أهل سمرقند، وجندي من المسلمين “الغزاة”، وتجمع الناس في خوف وترقب، فلا شك عندهم أن جنود المسلمين سيتجمعون من كل صوب ليلقنوا الشاب من أهل سمرقند درسًا لا ينساه، ليكون عبرةً لكل من تسول له نفسه أن يعتدي على جندي من “الغزاة”، وتجمَّع الجند، وأحاطوا بالمشاجرة، ووسط دهشة الجميع، اقتادوا المتخاصمين والشهود إلى القاضي.
لم يتوقع أحد ممن حضر المحاكمة شيئًا مما حدث، أوقف القاضي المسلم الجندي المسلم بجوار الشاب الوثني، وحقق الأمر بكل نزاهة، ثم أصدر حكمه على الجندي المسلم!!
هل هذه هي القصة العجيبة؟، كلا، إنها فقط، البداية..
انتشر الخبر في طول المدينة وعرضها، إن لهؤلاء “الغزاة” قضاءً عادلاً، وهناك في الجبال البعيدة وقف شاب سمرقندي أمام كبير الكهان يقص عليه القصة التي أثارت استعجاب الجميع، وحين تأكَّد الكهان مما حدث اتخذوا قرارًا لم يسبقهم إليه أحد، لقد قرر الكهان أن يرسلوا بشكواهم ضد “قتيبة بن مسلم”، إلى أمير المؤمنين.
انطلق الجواد الأصيل يطير بأحد شباب الكهان إلى عاصمة الخلافة الإسلامية، كانت أحلام النجاح في مهمته “شبه المستحيلة” تساور الكاهن الشاب، وأخذ يعد العدة لما قد يلاقيه من مصاعب، إذ كيف له أن يدخل على “أمير المؤمنين” الذي يحكم دولةً لم يسمع التاريخ عن مثلها، تمتد من حدود الصين شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، كيف سيتحدث إلى هذا الملك العظيم، الذي فاق في ملكه كسرى وقيصر؟، ماذا سيقول له وهو يشتكي إليه أعظم قواده؟، وأخيرًا، ماذا عساه أن يفعل به وهو من أعدائه وخصوم دولته؟
لم يكن الكاهن الشاب يعلم أن “أمير المؤمنين” هو خامس الخلفاء الراشدين، حفيد الفاروق رضي الله عنه الذي ملأ الدنيا عدلاً، لم يكن يعلم أنه “عمر بن عبد العزيز” الزاهد العابد، التقي الورع، الذي سارت الركبان بقصص عدله وحكمته، وفاضت بركات الله في عهده على أمته، حتى ما غدا بها جائع ولا مسكين، وحتى أُخرجت الصدقات فلم تجد من يأخذها.
انتهت رحلة الكاهن الشاب عند بيت قديم من طين، في حي متواضع من أحياء العاصمة هاهنا قالوا له إنه سيجد “أمير المؤمنين”، لكنه لا يكاد يصدق ذلك، إذ كيف لمن يملك الدنيا أن يكون بيته في مثل هذا المكان؟، اقترب الكاهن الشاب من البيت فإذا رجل يصلح جدارًا بالطين، وقد غطى الطين ثوبه ويديه، وكلما مر عليه أحد قال: “السلام على أمير المؤمنين”، صعق الشاب مما رأى، أهذا هو ملك الدنيا الذي خضعت له الرقاب؟!، إن هذا لشيء عجاب.
وبينما هو مندهش يتأمل، إذ جاءت امرأة مع ابن لها تطلب من أمير المؤمنين أن يزيد عطاءها من بيت مال المسلمين، ومال ابنها على لعبة في يد ابن أمير المؤمنين فخطفها منه، ولما حاول ابن الخليفة استرداد لعبته، لطمه ابن المرأة السائلة فسال الدم من وجهه، وكأي أم هرعت زوجة أمير المؤمنين إلى ابنها فضمته، وضمدته، وانفجرت صارخةً في المرأة وطفلها .. هل تدرون من هي زوجة الخليفة هذه؟، إنها “فاطمة بنت عبد الملك”، ربيبة القصور والملك، التي كان أبوها وزوجها وإخوانها جميعًا من أعظم خلفاء المسلمين، فماذا فعل “أمير المؤمنين” عمر بن عبد العزيز؟
نظر عمر إلى وجه المرأة وابنها وقد علاه الرعب، فهدأ من روعها، وأخذ اللعبة من ابنه وأعطاها للصغير الفقير، وأمر لها بزيادة العطاء، وأخذ ابنه فقبله وهدأه، ثم التفت لزوجته التقية وقال: “حنانيك، لقد روعتها وابنها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من روَّع مسلمًا روَّعه الله يوم القيامة””، ثم أكمل إصلاح الجدار.
أحس الكاهن الشاب أنه في حلم، ولكنه تجرأ واقترب من أمير المؤمنين، ولما سأله عن شأنه قال: “سيدي، إني صاحب مظلمة لأهل سمرقند، جئت أشكي إليك قتيبة بن مسلم، وقد علمنا عدلكم فطمعنا أن تنصفنا، إن قتيبة أخذنا على غـِرَّة، وقد علمنا أنه من عاداتكم أن تنذروا القوم ثلاثة أيام تخيرونهم فيها بين الإسلام أو الجزية أو القتال”، قال عمر: “إنها ليست عاداتنا، إنه أمر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”، قال الشاب: “فإن قتيبة لم يفعل ذلك”، فأطرق عمر قليلاً ثم أمر الكاتب فكتب رسالة وختمها بختمه ودفعها للشاب، وقال: “أعط هذه لوالي سمرقند يرفع عنكم الظلم بإذن الله”، ومرةً أخرى، عاد يكمل إصلاح الجدار.
فض والي سمرقند رسالة أمير المؤمنين، وقرأها، ثم قال للكاهن الشاب: “سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين، لقد أمرني أن أعين قاضيًا يقضي في مظلمتكم، وسأفعل من فوري، وموعدنا بعد يومين، فاذهب يا بني فائتِ بالكهنة والقادة من قومك، ولهم منا الأمان”، ثم أرسل في طلب “قتيبة بن مسلم”.
اجتمع الناس في المسجد حيث تُعقد المحاكمة، وجاء القاضي المسلم، ونادى الحاجب على كبير الكهان فتقدَّم، ثم نادى على قتيبة بن مسلم فأوقفه القاضي بجوار خصمه، ثم أمر القاضي الكاهن أن يعرض مظلمته فقال: “هذا قائدكم قتيبة بن مسلم دخل بلادنا دون إنذار، كل البلاد أعطاها خيارات ثلاث الإسلام أو الجزية أو الحرب، أما نحن فأخذنا بالخديعة”.
التفت القاضي إلى قتيبة وقال: “ما تقول في هذه الشكوى؟”، قال قتيبة: “أصلح الله القاضي، الحرب خدعة، وهذا بلد شديد البأس، قد كان عقبة أمام الفتح، وقد علمتُ أننا إن اقتتلنا سالت دماء الفريقين كالأنهر، فهداني الله إلى هذه الخطة، وبهذه المفاجأة حمينا المسلمين من أذى عظيم وحقنا دماء أعدائنا، نعم لقد فاجأناهم، ولكن أنقذناهم وعرَّفناهم الإسلام” .. قال القاضي: “يا قتيبة! هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب؟؟”، قال قتيبة: “لا لم نفعل، فاجأناهم لما حدثتك به من خطرهم”، فقال القاضي: “يا قتيبة لقد أقررت، وإذا أقرَّ المدعي عليه انتهت المحاكمة، يا قتيبة ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين، ومن أعظم الدين اجتناب الغدر وإقامة العدل، والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهادًا في سبيل الله، ما خرجنا لنملك الأرض ونحتل البلاد ونعلو فيها بغير حق”.
ثم أصدر القاضي أعجب حكم صدر في تاريخ البشرية، قال: “حكمت أن تخرج جيوش المسلمين جميعًا من سمرقند- خفافًا كما دخلوها- خلال ثلاثة أيام، ويردوا البلد إلى أهله، ويعطونهم الفرصة ليستعدوا للقتال، ثم ينذرونهم ويخيرونهم بين الإسلام أو الجزية أو الحرب، فإن اختاروا الحرب كان القتال؛ وذلك تطبيقًا لشرع الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم”.
ألم أقل لكم إنكم لن تصدقوني، إن الدهشة التي تملكتكم الآن هي ذاتها التي تملكت أهل سمرقند وهم يسمعون ذلك الحكم التاريخي الخالد، جيش غازٍ ملك البلاد واستتب له الأمر، ثم يأمرهم قاضيهم أن يرحلوا عنها لأنهم لم يطبقوا شرع الله!!، عجيب أمر هؤلاء القوم جـِدُّ عجيب.
ثم أخذت الدهشة بمجامع أهل سمرقند جميعًا وهم يرون المسلمين يرحلون خفافًا مسرعين، فما انقضت الأيام الثلاثة إلا والمدينة خالية من أي مسلم، اجتمع أهل سمرقند وقادتهم وكهانهم في وسط المدينة وهم لا يصدقون ما حدث، ثم تداولوا بينهم، إن قومًا هذا خلقهم لهم خير بني البشر، وإن قضاءً هذا فعله لهو العدل المطلق، وإن دينًا يأمر أتباعه بمثل هذا لهو الدين الحق، ولم يطل الأمر حتى أسلمت “سمرقند” عن بكرة أبيها.