الانتحار الجماعي – حادثة مزرعة جونز تاون

إذا أعجبتك المقالة, يمكنك مشاركتها عبر صفحتك في مواقع التواصل الإجتماعي

في يوم 18 نوفمبر من عام 1978 كان الأمريكيون على موعد مع فاجعه جعلت العالم بأكمله يقف غير مصدق من هولها, إذ قام أكثر من 900 شخص بالإنتحار الجماعي في مكان وزمان واحد وذلك في مزرعة جونز تاون، التي كانت مركزا لطائفة دينيه غريبة الأطوار, عرفت بإسم كنسية الشعب people Temple وكانت المرة الوحيدة في التاريخ التي يغتال فيها سيناتور امريكي أثناء تأديته مهامه الرسمية, كانت تلك الحادثة تعتبر ولوقت طويل أكبر كارثه في الأرواح في الولايات المتحدة الأمريكية حتى جاءت تفجيرات 11 سبتمبر 2001.

الانتحار الجماعي والطائفة الخمسينية

الانتحار الجماعي - حادثة مزرعة جونز تاون

في سنة 1956 عندما تأسست الطائفه الدينية المسماة كنيسة الشعب على يد ( جيم جونز ) وهو شخص غارق في الأحلام و الأوهام و المثاليات إذ كان يؤمن بمبادىء الشيوعية ومثلها العليا، حيث يكون المجتمع الشيوعي الذي لا يفرق بين عرق أو لون وتعيش جميع الاعراق و الطوائف في وفاق تام في ظل العمل من أجل المصلحة العامة و إيثار الغير.

كانت أعوام الستينات و السبعينات مسرحا لدعاة التحرر والإنعتاق من كل دين أو ضابط مما أدى إلى ظهور العشرات من الطوائف الدينية الجديده من المراهقين والشباب البيض من الطبقات الوسطى ذوي المستوى التعليمي الجيد نسبيا، كان يغلب عليهم الفراغ الروحي و العاطفي مما جعلهم يبحثون عن إشباعه بطرق غير مألوفة وبتشكيل طوائف غريبه عجيبة، وكانت فرصة الدجالين لكي يستغلوا هذا الضعف لصالحهم ويستقطبوا أتباعا كثر, وكان ( جيم جونز) واحد منهم حيث بدء الترويج لأفكاره في أوساط جماعة مسيحيه تدعى الخمسينيه Pentecostalism التي كان معظم أعضائها من السود الكادحين ومجموعة من كبار السن البيض, إضافة إلى بعض الأشخاص المثقفين ذوي مستوى تعليمي عالي جلبهم الفراغ الروحي إلى هنا.

لاقت أفكار جيم جونز المثالية رواجاً بين أعضاء جماعة الخمسينيه وبدأ يستقطب أتباعا، وكان يدعو إلى نبذ العنصرية في الوقت الذي كانت فيه امريكا تضج بالكراهية ضد السود، لقد كان جيم جونز في البداية كالحمل الوديع وداعي إلى السلام و الخير، ساعد أتباعه في الحصول على عمل وساعد الفقراء والمساكين وبنى لهم المدارس وساعدهم في المواصلات والمعيشة، ولكن سرعان ما بدء يطالبهم بالانضباط و الولاء الأعمى له وعدم مخالفة أوامره و تعاليمه.

في عام 1965 إنتقل برفقة 100 من أتباعه إلى شمال كاليفورنيا وبدأت هذه الجماعة في التزايد و أنشأت المزيد من دور التعبد التي يجتمع فيها اعضاء هذه الطائفة, وتم تأسيس مركز رسمي في سان فرانسيسكو كان يختبأ خلف الصورة التي حاول جيم جونز ترويجها للرأي العام عن نفسه, وهي الزعيم المحبوب وداعية الحب و السلام وصديق الفقراء والمساكين.

حالة جيم جونز النفسية

الانتحار الجماعي - جيم جونز

كان جيم جونز رجل مضطرب نفسيا يتراء له أنه المسيح بشحمه و لحمه، تارة يدعي أنه فلادمير لينين وتارة أخرى يدعي أنه نبي صديق، حتى أنه زعم في آخر أيامه أنه هو الله نفسه قد نزل على هيئة بشر، لقد أتضح مع مرور الوقت المعبود الأوحد لأتباعه الذين لا يعصون له طلبا، إذ رأوا فيه مخلصهم من الكوارث المزعومة التي تنبأ بها جونز ،مثلا كأن تحدث حرب نووية تقضي على جميع سكان الأرض أو طوفان عظيم يأتي على الاخضر واليابس ​وطبعا الناجي الوحيد من هذه الكوارث هم أتباع هذا الرجل المعتوه كما وعدهم.

في كثير من خطبه كان يهاجم الرأسمالية والتفرقه العنصرية ولكن في غالب الأحيان كان يركز على من يسميهم ”الاعداء” المتربصين به وبأتباعه وخطرهم الداهم, وهم الحكومه و الشرطة و عامة الناس والصحف والمجلات, يعني الجميع .. دفع هذا الرعب و الخوف المفتعل إلى هجرة اعضاء الطائفه من أمريكا الشمالية بأكملها متوجهين نحو غابة معزولة تقع في امريكا الجنوبية, وبالضبط في شمال دولة غايانا Guyana حيث أنشئوا هناك مستوطنه إسمها Jones town أي” مدينة جونز” تيمنا بزعيمهم جيم جونز, وبدء الأتباع يتدفقون إلى ذلك المكان سعيا وراء الإنعزال و ممارسة طقوسهم​ بكل حرية و فرارا من إزعاج الحكومة الأمريكية وتحرشات المواطنين بهم.

كان يفترض لهذه المستوطنة أن تكون المدينة المثالية أو جنة الله على أرضه كما يسمونها, ولكن كان من يصل إلى هناك يصاب بإحباط شديد وصدمة كبيرة لأنه لم يجد ما كان يتوقعه، لقد كانت البيوت الخشبيه الصغيرة التي تم بنائها هناك لا تكفي لاستعاب العدد الكبير من الوافدين, مما أدى إلى تكديسهم لدرجة أنه كان ينام عشرات الأشخاص في غرفة ضيقة لا تتسع لأكثر من إثنين، كما أن الفصل بين الجنسين كان مطبقاً هناك, لذلك كان يجبر الأزواج على الإفتراق وكل منهم ينام على حده، والحرارة و الرطوبه الكبيرة كانت لا تحتمل مما تسبب في إصابة الكثيرين بأمراض خطيرة، كما كان معظمهم يجبرون على العمل الشاق في الحرارة الشديدة أحيانا ل 16 ساعة في اليوم دون توقف.

في المستوطنة, كان اعضاء الجماعه مجبرين على الإستماع لثرثرة جيم جونز على مكبرات الصوت المنصبه في كل مكان حتى أنه كان يغني بأعلى صوته في الليل و الناس نيام.

لقد كانت الظروف كارثية بالفعل مما أدى بالبعض إلى مغادرة ذلك المكان، ولكن بما أن المستوطنه كانت معزوله ومحاطة بأدغال لا نهاية لها كان يتعين عليهم طلب الإذن من جونز لكي يدلهم على طريق الخروج، لكنه كان يعتبرهم ملكه وعبيده ولا يجوز لهم المغادرة ويجب أن يبقوا في طاعته وخدمته، فأصبحت تلك المستوطنه عبارة عن سجن من غير قضبان.

مقتل الكونغرس الأمريكي ليو رايان

ليو رايان

وصل أمر هذه المستوطنة وظروفها المزريه إلى نائب الكونغرس الأمريكي (ليو رايان -Leo Ryan ) الذي قرر الذهاب إلى هناك والتحقق بنفسه مما يجري واصطحب معه فريق من المراسلين الصحفيين و مجموعه من أقارب الفارين إلى تلك المستوطنه، في الوهلة الاولى بدأ ل ليو رايان أن كل شيء يسير على ما يرام وأنه لا شيء يدعو إلى القلق ولكن في تلك الليلة واثناء طقس تعبدي يتخلله رقص وغناء هستيري تسلم أحد الصحفيين المرافقين لليو رايان ورقة صغيرة مكتوب عليها أسماء من يريدون المغادرة والذين كانوا يكتمون رغبتهم خوفا من غضب جونز, وهنا اتضح للسيناتور أنه فعلاً هناك أشخاص محتجزين هنا رغما عن إرادتهم.

في يوم 18نوفمبر 1978 أعلن السيناتور ليو رايان نيته في أصطحاب الراغبين في المغادرة نحو الولايات المتحدة لكن لم يستجب له إلا بضعة أشخاص وامتنع البقيه خوفا من ردة زعيمهم جيم جونز، صعد الراغبين في المغادرة على متن شاحنه جاء بها السيناتور والذي بقي في المؤخرة والباب الخلفي للشاحنة مفتوح, وذلك حتى يتأكد من أنه لا يوجد شخص آخر يريد المغادرة أيضا بعدما أقلعت الشاحنة, وعلى حين غرة تفاجأ السيناتور باحد من اتباع الجماعة يقفز عليه من حيث لم يره وحاول ذبحه بساطور ضخم لكنه فشل ووقع متدحرجاً على الطريق.

مقتل ليو رايان

ولكن عند وصول السيناتور ومرافقوه إلى المطار لم يجدوا طائرة متوجهة إلى الولايات المتحدة فقبعوا في الشاحنه ينتظرون ريثما تصل طائرة, وفي هذه الأثناء توقفت سيارة رباعية الدفع وترجل منها أشخاص مسلحون و فتحوا النار على الشاحنة وقتلوا خمسة أشخاص على الفور من بينهم السيناتور.

حادثة الانتحار الجماعي

في هذه الأثناء دعا جيم جونز جميع أتباعه إلى لقاء عاجل في المعبد حيث خطب فيهم قائلا : تيقنوا يا أبنائي و أحبائي أن العساكر الأمريكية قادمه لا محالة وعن قريب سترون الطائرات تقصف مدينتنا الآمنة وتقتل صغارنا, وأضاف أن الحل الوحيد أمامنا هو اللجوء إلى عمل بطولي ثوري لم يشهد له سابق في التاريخ، وهو الانتحار الجماعي.

حاولت إحدى السيدات معارضة الفكرة لكنها لقيت هجوم شديد من البقيه الذين يثقون في جونز ثقة عمياء، عندما وصل خبر مقتل السيناتور إلى مسامع جونز أصبح أكثر إلحاحا وعجلة من ذي قبل وصرح قائلا : أتعلمون ما الذي ينتظركم عند نزول المظليين على أرضنا؟ سوف يعذبوكم عذاب شديد وسيعذبون أطفالنا الصغار أمام أعيننا وسيسلخون عجائزنا أحياء ونحن نسمع صراخهم و تأوهاتهم, لن نسمح بحدوث هذا.

كان قد أعد كل شيء من قبل تحسبا لأي طارئ, إذ جلب أوعية كبيره وملأها بخليط قاتل من سم السيانيد وحامض الفاليوم ثم وضعها عند مدخل المعبد، بدأ بتسميم الأطفال الصغار أولا حيث أستعمل الحقن لحقن الخليط السام في أجسادهم, ثم جاء دور الأمهات فانتحروا بنفس الطريقة, ثم جاء الدور على البقيه وإن فكر أحدهم في مخالفة الامر فسيجد المسدسات و السواطير موجهة صوبه, أستغرقت الوفاة بهذه الطريقة نحو خمس دقائق من الآلام المبرحة والتلوي أرضا والعذاب الشديد.

الانتحار الجماعي

في ذلك اليوم المشؤوم 18 نوفمبر 1978 إنتحر 912 شخص من بينهم 276 طفل, أما جيم جونز فقط إنتحر عن طريق رصاصة في الرأس.

بعض الأشخاص فقط كتبت لهم النجاة من هذه المأساة المؤلمة، لقد نجا بعضهم عن طريق التخفي وسط الأدغال منتظرين النجدة, والبعض الآخر نجا عبر الإختباء في أرجاء المستوطنة، لكن جميعهم أجمعوا على انهم كتبت لهم حياة جديدة، ومن خلالهم عرفت تفاصيل الإنتحار الجماعي.

رغم أن هذه المأساة حدثت سنة 1978 إلا أنها بقيت محفورة في ذاكرة الأمريكيين، وهي مثل حي على جنون بعض الناس وخطورة الفراغ الروحي والبعد عن الله.

إذا أعجبتك المقالة, يمكنك مشاركتها عبر صفحتك في مواقع التواصل الإجتماعي
‫0 تعليق

اترك تعليقاً