اشتهر الصحابي الجليل عمرو بن العاص بالدهاء والحيلة وحسن التصرف في المواقف، حيث كانت العرب تقول: “معاوية للمعضلة وعمرو للبديهة، والمغيرة بن شعبة لكل صغيرة وكبيرة” ، وقيل عن دهاء عمرو بن العاص بأنه كان داهية العرب رأيا وحزما وعقلا ولسانا . الصحابي الجليل عمرو بن العاص – رضي الله عنه – هو أحد فرسان قريش وأبطالها، وأذكى رجال العرب، وأشدهم دهاء وحنكة وحيلة، وكان إسلامه قبيل فتح مكة، وعرف عنه أنه مجاهدا شجاعا يحب الله ورسوله، ويعمل على الدوام لرفع لواء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وكان رسول الله يحبه ويوليه العديد من المهمات وقيادة الجيوش، ويقول عنه : “عمرو بن العاص من صالحي قريش ، نعم أهل البيت أبو عبد الله ، وأم عبد الله ، وعبد الله”.
أسلم عمرو بن العاص قبيل فتح مكة، وقال: ما رفعت بصري في وجه النبي صلي الله عليه وسلم حياء منه. ومن جميل كلامه: “والله لا أملّ دابتي ما حملتني ، ولا ثوبي ما وسعني، ولا زوجتي ما أحسنت عشرتي، إن الملال من سيء الأخلاق”. وكان يقول: “ليس العاقل من عرف الخير من الشر، ولكن العاقل من عرف خير الشرّين”
إليكم ثلاثة قصص في دهاء عمرو بن العاص, إذ كان عمرو بارعا في القتال ويحسن المراوغة والخداع اللذين لا يخلوان من الذكاء وابتكار الحيل في فن المعارك. وهذه بعض القصص التي تبين دهاء عمرو بن العاص وفطنته وذكاءه، خاصة في المواقف الحرجة التي تتطلب حلولا فورية.
القصة الأولى: داء قطّاع الطرق
يحكى أنه في أحد الأيام بينما كان عمرو بن العاص في الطريق إلى المدينة لوحده اعترضه جماعة من قطاع طرق، وأمسك زعيمهم بتلابيبه. لم يكن قطاع الطرق يعرفون هوية الرجل الأسير، بل كانوا يهمون بسلبه وقتله كائنا من يكن، لكن عمرو استوقفهم قائلا: “توقفوا. إن قتلتموني بالسيف متنا جميعا”.
استغرب قطاع الطرق، وسألوه: “لماذا؟” أجابهم عمرو: “إن بي داء، فإن انتشر دمي، يموت كل من حولي”. توقفوا متبادلين نظرات حائرة، فأردف قائلا: “وما أتى بي وحدي إلى هنا إلا أني أردت الذهاب لمكان لا يكون فيه أحد، فأموت وحيدا وأوقف المرض اللعين عن العرب”. ثم سأل: من أمسكني منكم بيده؟ فأشاروا إلى زعيمهم وقالوا: “هو زعيمنا”.
فقال عمرو: “لا أبرح مكاني حتى يذهب معي، فقد مسه الداء”. هنا، توجس قطاع الطرق خيفة من زعيمهم الذي اقتنعوا أن عدوى المرض لا بد قد أصابته، وكانوا يعرفون قسوته وبطشه، ففروا منه هاربين، تاركين إياه وحيدا مع الأسير.
هنا، قال عمر بن العاص لزعيم قطاع الطرق: “الآن سأريك ما الداء، ألا وهو الذكاء. إني أخاف أن تصبح أذكى مني وأنت قاطع طريق، فلا يستطيع الناس الخروج آمنين من ديارهم”. ثم هجم عليه وقتله.
القصة الثانية: حصن بابليون وفتح مصر
تروى قصة أخرى عن دهاء عمرو بن العاص في أثناء حربه مع الرومان في مصر، إذ دعاه قائد “حصن بابليون” الروماني ليحادثه ويفاوضه، بينما أعطى أمرا لرجاله بإلقاء صخرة فوقه لدى خروجه من الحصن، وأعد كل شيء ليكون قتل ضيفه محتوما.
دخل عمرو على القائد الروماني، وجرى اللقاء بينهما. حين خرج عمرو في طريقه للانصراف إلى خارج الحصن، لمح فوق الأسوار حركة مريبة أيقظت فيه حاسة الحذر، وسرعان ما تصرف بشكل مفاجئ، إذ عاد إلى داخل الحصن بخطوات وئيدة مطمئنة وملامح بشوشة واثقة، كأنما لم يفزعه شيء، ولم يثر شكوكه أمر.
دخل عمرو على القائد الروماني وقال له: “تذكرت أمرا، وأردت أن أطلعك عليه. إن معي حيث يقيم أصحابي جماعة من أصحاب الرسول السابقين إلى الإسلام، لا يقطع أمير المؤمنين بأمر دون مشورتهم، ولا يرسل جيشا من جيوش الإسلام إلا جعلهم على رأس مقاتليه، وقد رأيت أن آتيك بهم حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت، ويكونوا من الأمر على مثل ما أنا عليه من بيّنة”.
هنا، ظن قائد الروم أن عمرو بن العاص منحه بسذاجة وغباء فرصة العمر، فصمم على أن يسايره ويوافقه على رأيه حتى إذا عاد ومعه تلك النخبة من زعماء المسلمين وخيرة رجالهم وقادتهم أجهز عليهم جميعا بدلا من أن يجهز على عمرو بن العاص وحده. أعطى القائد الروماني بإشارة خفية أمره بتأجيل الخطة التي كانت معدة لاغتيال عمرو، وودعه بحرارة أكبر من السابق. ابتسم داهية العرب وهو يغادر الحصن آمنا مطمئنا. في الصباح، عاد عمرو إلى الحصن ممتطيا صهوة جواده على رأس جيشه، ثم قام بفتح مصر.
القصة الثالثة: النار وتفريق الجمع
بعد إسلام عمرو بن العاص أولى إليه الرسول –صلى الله عليه وسلم- مُهمة تفريق جمعاً لقضاعة، حيث كانوا ينوون غزو المدينة، فسار عمرو بسرية سُميت “ذات السلاسل”، وقد استطاع عمرو تحقيق النصر في هذه المُهمّة وتدبير شؤون المقاتلين.
وخلال عودة الجيش الإسلاميّ كانوا قليلي العدد وكان الجو بارداً فأرادوا أن يوقدوا ناراً، ولكن عمرو بن العاص منعهم من ذلك، فشكوه إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال عمرو للرسول حينها أنّه خشي أن يلتفت العدوّ لقلة عدد المُسلمين العائدين معه فيقومون بعمل كمين لقتالهم، ولهذا منعهم من أن يوقدوا ناراً، فما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الإشادة بعمله هذا وبحُسن تدبيرة للسريّة.